حقوقي حقوقي.. هكذا تتعالى الأصوات في كل مكان، ومن كل الأعمار، ومن كل المهن والوظائف، ويطنطن الإعلام فوق رؤوسنا صباحا ومساء بحقوق الإنسان، حقوق الطفل، حقوق المرأة، حقوق الحيوانات،... . إلخ.
والقائمة تطول، وبالتالي أصبح كل فرد يتساءل عن حقه، وإنه مهضوم الحقوق!! وبالتالي أصبحنا جميعا من أصحاب الحقوق.. والحقوق فقط! !
وهذه هي المصيبة الكبرى التي نعيشها اليوم، حيث تضخمت وكبرت الأنا، والأنانية، ولم تعد تجد سوى الجهل التام المطبق بما على الفرد من واجبات.. وعدم الفهم والوعي لموضوع الأنا ونحن والحقوق والواجبات.. وهكذا يعيش العالم في دوامة الحقوق، واللهث وراءها حتى أصبح الإنسان عبدا لهذه الدوامة المسماة بالحقوق.
ويعيش العالم كله بجناح واحد، فيهبط إلى قاع التخبط والاضطرابات والقلق والتفكك النفسي والاجتماعي والأسري لاختلاف الحقوق وتعارضها. إنها صورة قاتمة للعالم الذي نعيشه ولكنه واقع، نرى أثاره أمام أعيننا، فترى الإنسان في ذهول عن محيطه الخارجي، فلا يشعر ولا يحس بمن حوله ولا يبصر سوى شيئا واحدا وهو رغباته ومصالحه الذاتية، ولا يعيش إلا لذاته الضيقة.
إن الإسلام دين التوازن، والشمول، والإيجابية، فيوازن بين الثنائيات: الروح والجسد، والحقوق والواجبات، والرجل والمرأة، فالروح تكمل الجسد، ولا تقف ندا له، ولا تستقيم الحقوق إلا بإعطاء الواجبات، ولن تستمر الحياة إلا باختفاء الصراع بين الرجل والمرأة، فالحياة ليست حلبة مصارعة لهما، بل انسجام وتكامل وتوازن في الأمور لكل منهما بحسب خصائصه وصفاته وما وهبه الله من مميزات.
فالإنسان في الإسلام ليس أحادي الجانب، و ليس آلة مادية صماء، وليس حيوان تحكمه الغريزة، وليس ضائعا في هذا الوجود، وإنما خلقه الله ووهب له الإرادة والإمكانات والطاقات، وسخر له كل ما في هذا الكون.
وأنزل إليه الهدى، فإذا هذا المخلوق مكرم بين خلق الله، يأخذ ويعطي، ويعرف ما له ما عليه، ويقيم الحضارة، وينشر السلام النفسي والاجتماعي والعالمي، ويعرف دوره في هذا الكون الكبير، فيرتبط ابتداء بنفسه وبمن حوله من بني جنسه، وانتهاء بالنبات والحيوان والجماد برابطة الصداقة والأُنس والطمأنينة.
وهكذا تتسع دائرة التعامل، وتتفتح مجالات الإبداع والإتقان في مجالات الفكر والعمل والعلاقات، والشفافية في خلجات العواطف والمشاعر، "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.
إن الإسلام بهذه الصورة المشرقة الناصعة هو الإعلان الجامع الوافي لحقوق الإنسان، وهو الهوية الوحيدة القادرة على بيان شخصية الإنسان الاستقلالية والمحررة من كل قيد وعبودية إلا عبودية الله الخالق، ولولا هذه العبودية لله ما نال الإنسان حريته، وهو الديانة الوحيدة القادرة على منح الإنسان التوازن بين الحق والواجب، وبين حق الفرد والجماعة.
ولذا نجد أن الإنسان المسلم يتعوذ من الشيطان عند ذكر الأنا، بينما الإنسان الأوربي يعتمد على مقولة "أنا ومن بعدي الطوفان" مما يعني أن هناك فرقا كبيرا ومختلفا بين حقوق الإنسان في الغرب وبين حقوق الإنسان في الإسلام، بل حتى هناك اختلاف في مفهوم المصطلح الحقوقي. .
فالحق الغربي ليس له مفهوم واضح فهو غامض، يتغير تبعا لتاريخ الأمم والشعوب وما مر عليها من أحداث فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، يتغير تبعا لمفهوم الإنسان وتعريف الإنسان لديهم، فصورة الإنسان في التفكير الغربي بعد الثورة على الكنيسة هو ذلك القرد الذي تطور كما وصفه دارون وهذا هو الإنسان الذي صاغ إعلان حقوق الإنسان!!
أي بمعنى آخر نشأ هذا المفهوم نتيجة الصراع، صراع الجميع ضد الجميع، وتناقض المصالح، وبالتالي ما يسعى إليه الإعلام والكتاب والمؤتمرات التي تنادي بالحقوق هو نشر ما انتهى إليه الفكر الغربي لفكرة حقوق الإنسان، من كون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، حيث يحل الطبيعي محل الإلهي.
ومن هنا نجد أن حقوق المرأة الغربية مثلا لم تتحقق إلا عبر صراع المرأة مع الرجل، أي استنادا إلى قوانين بشرية، وصراع الإنسان مع الدين، ويتجلى ذلك في كتاب فيلسوف العدمية فريدريك نيتشه "هكذا تكلم زرداشت"، "لقد ماتت القيم، لقد مات الدين المسيحي في أوروبا". وأطلق الإنسان السوبر فأصبح هو مركز الكون، وهو الذي يحدد معايير الخير والشر حسب مصالحه ورغباته.
وما زالت المرأة في صراع مع الرجل حول حقوقها تبحث عن روحها الضائعة، وإنسانيتها الممزقة، تخضع إلى القوانين المفروضة عليها من الطرف الأقوى، واستعبادها بشتى الوسائل وبمسميات مختلفة، على الرغم من إعلان فيرجينيا لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الصادر عام 1776.
وإعلان الثورة الفرنسية الصادر في عام 1790، وانتهاءً بإعلان الأمم المتحدة الصادر في عام 1947، والمسمى "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". والأجدر أن يسمى بالإعلان الوهمي لحقوق الإنسان، فالحقوق بدون إله، هي حقوق التيه والضياع.. هي حقوق القوي يأكل الضعيف، حقوق الغابة والعدم.
هذا هو مفهوم الحقوق في الغرب، بينما في الإسلام تعتمد الحقوق على وجود الله، والإيمان بالله الذي أتى بمفهوم الأخوة، قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات: 10)، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يسمو بواجبات الأخوة التي يفرضها الإيمان إلى خلجات المشاعر والعواطف "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"متفق عليه.
ثم صاغ هذه الحقوق في صورة واجبات، فحقوق الزوجة واجبات على الزوج، وحقوق الزوج واجبات على الزوجة، وحقوق الجار واجبات على جاره، والأكل والملبس والسكن والأمن والتعلم وحرية الاعتقاد والعبادة، والبر بالآباء ورعاية الأبناء، واجبات لا يجوز إهمالها، ولا يجوز لأحد أن يمنع الإنسان عن القيام بهذه الواجبات والحقوق؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بها، ودعا إليها، وليس أحدا من البشر.
وبالتالي أصبح مفهوم الحقوق مفهوم عطاء وتراحم وتراضٍ، وليس صراع وتنافس وغصب وإكراه، وعلى مدى التاريخ الإسلامي نقرأ قصص الوفاء بالحقوق والتسابق إلى البذل والعطاء، حيث كانت فلسفة الحلال والحرام واضحة في فكر كل مسلم، وضوح الشمس، وموجودة في ذاكرته لتمنحه التدقيق والمراقبة على أعماله وممارساته الفردية، وأعمال وممارسات المجتمع، فكل فرد يعرف ماله وما عليه، وكيف يتعامل ومتى يتعامل؟ وأين تقف حدوده بحيث لا يتعدى على أحد أو يتعدى عليه أحد.
إن المنادين بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق... "والقائمة تطول"، لم يفهموا خصائص الإسلام وشموله وتوازنه وإيجابيته، ولم يدركوا خصوصية التصور الإسلامي للإنسان والحياة، متأثرين بالنظرة الغربية، مع العلم أنه لم يحدث لدينا في حضارتنا الصراع الرهيب بين الكنيسة والعلم، فكيف نردد وننادي بما يقولون؟؟ ولماذا الركض خلف السراب ولدينا الماء الزلال؟
إن الإنسان الذي يطالب بالحقوق، مطالب بالواجبات التي عليه، ولو أدى كل إنسان ما عليه من واجبات لنال حقوقه، ونال الآخرون حقوقهم، ولذا علينا إعادة التوازن بين كفتي الحقوق والواجبات، وأن نعيد التوازن المفقود في أن الفرد بين قيم الكم وقيم الكيف، وهي مسؤولية كل فرد بحسب مكانه في المجتمع، ولن نستطيع إعادة هذا التوازن إلا بالتمسك بالإسلام شريعة ومنهاجا.
الكاتب: وائل بن إبراهيم بركات
المصدر: موقع لها أون لاين